المسؤولية المدنية في حوادث السيارات بالإمارات: دليل قانوني شامل للمتضررين والمسؤولين بموجب القوانين الاتحادية وأحكام محكمة التمييز
في دولة الإمارات، حيث تتقاطع شرايين التنمية مع حيوية الحركة المرورية، لا يمر يوم دون أن نسمع عن حادث سير. قد يكون مجرد خدش بسيط، وقد يكون كارثة حقيقية تخلّف وراءها أضراراً جسيمة. في خضم هذه الأحداث، يبرز تساؤل قانوني جوهري: ما هي المسؤولية المدنية في هذه حوادث السيارات؟ وكيف يضمن القانون الإماراتي حقوق المتضررين؟ وكيف يمكن للمتضرر أن يحصل على تعويض الحوادث الذي يستحقه؟ هذا المقال ليس مجرد بحث أكاديمي، بل هو خارطة طريق قانونية مفصلة، مبنية على قانون المعاملات المدنية وقانون السير والمرور، ومستنيرة بـأحكام محكمة التمييز العليا، نقدمها لكم بأسلوب يجمع بين عمق الخبرة القانونية ووضوح الشرح، ليكون مرجعاً لكل من يبحث عن العدالة في طرقات الإمارات.
تُعدّ المسؤولية المدنية في حوادث المركبات من أهم وأكثر القضايا تداولاً في المحاكم، وهي تستند في جوهرها إلى أحكام المسؤولية التقصيرية المنصوص عليها في قانون المعاملات المدنية الإماراتي. فالقاعدة القانونية راسخة: كل من أحدث ضرراً للغير، يلزمه القانون بتعويضه، بصرف النظر عن صفة من أحدث الضرر أو أهليته. ولإقامة دعوى التعويض بنجاح، يجب أن تتوفر في الحادث ثلاثة أركان أساسية، وهي الخطأ، والضرر، وعلاقة السببية التي تربط بينهما، وهي ما سنتناوله بالتفصيل.
الأركان الأساسية للمسؤولية المدنية التقصيرية في القانون الإماراتي
لإقامة أي دعوى تعويض عن ضرر ناتج عن حادث سير، يتوجب على المدعي أن يثبت أن الحادث قد نتج عن خطأ تقصيري من جانب المدعى عليه، وأن هذا الخطأ قد أحدث له ضرراً، وأن هناك علاقة سببية مباشرة بين هذا الخطأ والضرر.
الركن الأول: الخطأ
الخطأ هو الركن الأساسي الذي تقوم عليه المسؤولية التقصيرية. في سياق حوادث السيارات، يُعرف الخطأ بأنه كل فعل أو إهمال يرتكبه السائق ويكون مخالفاً لواجب قانوني أو للحيطة والحذر المفروضين عليه، مما يؤدي إلى الإضرار بالغير. هذا المفهوم لم يعرفه المشرع الإماراتي صراحةً في قانون المعاملات المدنية، لكنه بيّن آثاره القانونية وأحكامه.
يمكن أن يكون الخطأ إيجابياً أو سلبياً. فالخطأ الإيجابي هو الفعل المباشر الذي أدى إلى الحادث، مثل تجاوز الإشارة الحمراء، أو القيادة بتهور، أو الانحراف المفاجئ عن المسار، أو القيادة بسرعة جنونية. في المقابل، الخطأ السلبي هو الإهمال أو التقصير في أداء واجب كان يفترض القيام به، مثل عدم الانتباه للطريق بسبب الانشغال بالهاتف، أو عدم صيانة المركبة بشكل يضمن سلامتها. هذه الأفعال والممارسات الخطرة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، تُعتبر مخالفات لقانون السير والمرور، ويترتب عليها مسؤولية جنائية ومدنية في آن واحد. فالمشرع الإماراتي لم يترك الأمر عائماً، بل وضع نصوصاً قانونية دقيقة لضبط سلوك السائقين على الطرقات، وأي مخالفة لهذه القواعد تشكل أساساً قوياً لإثبات الخطأ.
الركن الثاني: الضرر
الضرر هو الأثر المباشر للخطأ، ويُعرف قانوناً بأنه كل ما يصيب الشخص في جسده، أو ماله، أو في حق من حقوقه، أو في مصلحة مشروعة له. ويُعتبر الضرر ركناً لا غنى عنه لقيام المسؤولية، إذ "لا ضرر ولا ضرار" قاعدة شرعية وقانونية.
في قضايا حوادث السيارات، يتعدد أنواع الضرر وتتنوع آثاره:
- الضرر المادي: ويشمل الأضرار التي لحقت بالممتلكات، مثل تلف المركبة أو أي ممتلكات شخصية أخرى، وكذلك الأضرار الجسدية التي تصيب المتضرر. من أمثلة الضرر المادي أيضاً ما يُعرف بـ"فوات الكسب"، أي خسارة الدخل أو الأرباح التي كان من الممكن للمتضرر تحقيقها خلال فترة العجز عن العمل بسبب الإصابة.
- الضرر المعنوي: وهو ما يصيب الإنسان في شعوره أو كرامته أو شرفه أو سمعته أو مركزه الاجتماعي، نتيجة للألم النفسي أو العجز الذي لحق به بسبب الحادث. فالتعويض عن الضرر المعنوي لا يقتصر على الأضرار الجسدية البليغة، بل يشمل أي ألم نفسي أو معاناة عاطفية يتعرض لها المصاب.
وتقدير التعويض الجابر للضرر هو من المسائل الموضوعية التي تقع ضمن السلطة التقديرية لمحكمة الموضوع (محكمة أول درجة والاستئناف)، ولا تخضع لرقابة محكمة التمييز ما دام هذا التقدير سائغاً ومبنياً على أسباب مقبولة. وهذا يعني أن القاضي ينظر في كل حالة على حدة، ويقدّر التعويض بما يتناسب مع حجم الضرر الذي لحق بالمتضرر، دون أن يتقيد في تقدير التعويض عن إصابة النفس أو إيذاء البدن بقيمة الدية الشرعية أو الإرش.
الركن الثالث: علاقة السببية
علاقة السببية هي الصلة المباشرة التي تربط بين الخطأ الذي ارتكبه السائق والضرر الذي لحق بالمتضرر. فإذا أثبت المدعي أن الخطأ هو السبب المباشر والحصري للضرر، قامت المسؤولية ولزم المدعى عليه بالضمان.
لكن المشرع الإماراتي وضع قاعدة مهمة في المادة (287) من قانون المعاملات المدنية، حيث نصت على: "إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي لا يد له فيه كآفة سماوية أو حادث فجائي أو قوة قاهرة أو فعل الغير أو فعل المتضرر كان غير ملزم بالضمان ما لم يقض القانون أو الاتفاق بغير ذلك". وهذا النص هو الأساس الذي يمكن للمدعى عليه الاستناد إليه لدفع المسؤولية عنه. فالسبب الأجنبي يقطع علاقة السببية بين الخطأ والضرر، ويُعفي من أحدث الضرر من المسؤولية.
ويتخذ السبب الأجنبي ثلاثة أشكال رئيسية في قضايا حوادث السير:
- القوة القاهرة أو الحادث الفجائي: كأن يقع الحادث بسبب عاصفة رملية مفاجئة، أو هطول أمطار غزيرة غير متوقعة، أو عطل فني مفاجئ في المركبة لم يكن من الممكن توقعه أو تداركه.
- فعل الغير: كأن يتسبب شخص ثالث في الحادث الذي أدى إلى ضرر المتضرر.
- فعل المتضرر نفسه: وهو حالة مساهمة المتضرر بخطئه في إحداث الضرر. فمثلاً، إذا قام أحد المشاة بعبور الطريق من مكان غير مخصص لذلك ، فإنه بذلك يساهم في إحداث الضرر لنفسه. في هذه الحالة، لا تُسقط المحكمة حقه في التعويض بالكامل، بل تُخفض قيمة التعويض بنسبة مساهمته في الخطأ. ويُعدّ تقدير هذه النسبة من صلاحيات محكمة الموضوع.
الإطار التشريعي للمسؤولية المدنية المرورية في الإمارات
تتكامل القوانين الاتحادية في دولة الإمارات لتشكيل إطار قانوني شامل ينظم المسؤولية المدنية في حوادث السيارات. فهناك علاقة وثيقة وتكاملية بين قانون المعاملات المدنية وقانون السير والمرور، بحيث يكمل كل منهما الآخر.
قانون المعاملات المدنية الإماراتي رقم 5 لسنة 1985
يُعتبر هذا القانون المرجع الرئيسي في كل ما يتعلق بالحقوق والالتزامات المدنية، وهو الذي يضع المبادئ الأساسية للمسؤولية التقصيرية. وقد نصت المادة (282) منه على: "كل من ارتكب فعلاً ضاراً بالغير يلزَم بالضمان ولو لم يكن مميزاً". وتؤكد هذه القاعدة على أن أي فعل ضار، حتى لو كان غير مقصود، يُلزم فاعله بالتعويض.
كما نصت المادة (293) على أن: "يتناول الضمان الأضرار المادية والأدبية"، مما يمنح المتضرر الحق في المطالبة بالتعويض عن كافة أنواع الأضرار التي لحقت به، بما في ذلك الأضرار الجسدية والمعنوية.
وتكمن أهمية هذا القانون في أنه يضع الأساس القانوني لالتزام من أحدث الضرر بتعويض المتضرر، وهو ما يجعل دعوى التعويض عن حوادث السير ذات طبيعة مدنية بحتة، حتى وإن نتجت عن مخالفة مرورية لها شق جنائي.
قانون السير والمرور الاتحادي رقم 21 لسنة 1995
يُعتبر هذا القانون المرجع الأساسي لتنظيم حركة المرور وتحديد المخالفات والعقوبات المرورية. فهو يحدد السلوكيات الخاطئة التي يرتكبها السائق، والتي تُشكل في الوقت نفسه "خطأ" بمفهوم المسؤولية المدنية. فمثلاً، نصت المادة (51) مكرر 12 على عقوبة الحبس أو الغرامة لكل من قاد مركبة "بتهور أو بصورة تشكل خطراً على الجمهور".
وبالرغم من أن قانون السير والمرور يحدد العقوبات الجنائية والإدارية (مثل الغرامات والنقاط السوداء)، إلا أنه لا ينظم بشكل مباشر دعاوى التعويض المدنية. هنا يبرز التكامل بين النظامين القانونيين في الإمارات؛ فقانون المرور يحدد الخطأ كجريمة أو مخالفة، بينما يُستخدم قانون المعاملات المدنية لترتيب النتائج المالية لهذا الخطأ. وهذا يفسر لماذا قد يُحكم على السائق المخطئ بالغرامة أو السجن في الشق الجنائي، بينما يُلزم في الشق المدني بدفع التعويض عن الأضرار التي تسبب بها للغير. وهذا النظام القانوني المزدوج يضمن معاقبة المخطئ جنائياً، وإعادة الحقوق لأصحابها مدنياً.
إن هذا الربط بين القانونين يوضح أن مسار الدعوى المدنية للتعويض غالباً ما يعتمد على نتيجة الدعوى الجنائية. فأحكام محاكم التمييز تؤكد أن الحكم الجزائي النهائي (القطعي) الذي يثبت مسؤولية السائق أو براءته تكون له حجية أمام القضاء المدني. وهذا يعني أن أول خطوة عملية للمطالبة بالتعويض تبدأ بإجراءات الشرطة والتحقيق الجنائي، وأن مسار الدعوى المدنية غالباً ما يتأثر بنتيجة الدعوى الجنائية.
دور وثيقة التأمين الموحدة في تغطية المسؤولية
تلعب شركات التأمين دوراً محورياً في حوادث السيارات، حيث تلتزم وثيقة التأمين الموحدة لتأمين المركبة من المسؤولية المدنية بتغطية الأضرار التي تلحق بالغير، سواء كانت أضراراً مادية أو جسدية. وقد أقرّت محكمة التمييز في دبي مبدأً قانونياً يلزم شركات التأمين بتعويض المتضرر من الغير حتى لو وقع الحادث خارج الطريق.
لكن مسؤولية شركة التأمين ليست مطلقة؛ فهي مسؤولية تابعة لمسؤولية سائق المركبة المؤمن عليها. بمعنى آخر، لا تلتزم الشركة بالتعويض إلا إذا ثبتت مسؤولية السائق. وإذا لم يُدَن الحكم الجزائي سائق المركبة، فإن مسؤولية شركة التأمين عن التعويض لا تتحقق. ومع ذلك، فإن مجرد التمسك بأن التأمين لا يغطي مسؤولية قائد السيارة لأنه لم يكن مأذوناً له بالقيادة، لا يمنع التزام شركة التأمين بدفع التعويض، ثم يكون لها الحق في الرجوع على المؤمن له بقيمة ما دفعته.
إجراءات المطالبة بالتعويض: خطوات عملية من موقع الحادث إلى قاعة المحكمة
الحصول على التعويض العادل يتطلب اتباع خطوات قانونية وإجرائية دقيقة، تبدأ من لحظة وقوع الحادث وتنتهي بصدور الحكم القضائي.
دور تقرير الشرطة: حجر الزاوية في الدعوى
إن أول إجراء وأهم وثيقة في أي حادث مروري هو تقرير الشرطة. فبمجرد وقوع الحادث، يجب على السائق التوقف في مكان آمن، وإبلاغ الشرطة على الفور عبر الرقم 999، وعدم مغادرة الموقع دون إذن. ويُشدد على أهمية عدم الاعتراف بالمسؤولية أو توقيع أي اتفاقيات غير رسمية في موقع الحادث.
بعد وصول الشرطة، تقوم بتحرير تقرير رسمي يوضح تفاصيل الحادث، مثل المكان والظروف المحيطة به، وبيانات السائقين والمركبات المتورطة، وتحديد نسبة المسؤولية لكل طرف. ويعتبر هذا التقرير هو الدليل القانوني الأساسي لإثبات الخطأ وتحديد المسؤولية، وهو المستند الأهم الذي يُبنى عليه قرار المحكمة.
التفاوض مع شركة التأمين
بعد الحصول على تقرير الشرطة، يتم إخطار شركة التأمين خلال 24 ساعة من وقوع الحادث. فكثير من المطالبات تُحلّ ودياً مع شركة التأمين دون الحاجة إلى اللجوء للمحكمة. ولتسهيل عملية التفاوض، يجب توفير كافة المستندات المطلوبة، والتي تشمل:
- تقرير الشرطة الرسمي.
- رخص القيادة لجميع الأطراف المعنية.
- وثائق تسجيل المركبة.
- صور فوتوغرافية لموقع الحادث والأضرار التي لحقت بالمركبة.
- الفواتير والتقارير الطبية التي توضح حجم الإصابة والعلاج المطلوب.
تستغرق هذه المرحلة من شهر إلى ثلاثة أشهر، وتوفر على الأطراف وقتاً وجهداً كبيراً مقارنةً باللجوء إلى القضاء.
رفع الدعوى القضائية
إذا فشلت محاولات التسوية الودية، يمكن للمتضرر رفع دعوى قضائية أمام المحكمة المدنية المختصة. ويحق لأي شخص تعرض لأضرار جسدية أو مادية نتيجة الحادث أن يرفع دعوى تعويض، سواء كان سائقاً متضرراً، أو راكباً، أو أحد المشاة، أو ورثة متوفى نتيجة الحادث.
يجب الانتباه إلى أن هناك مدة قانونية لرفع الدعوى، حيث يجب إقامتها خلال ثلاث سنوات من تاريخ وقوع الحادث، وإلا سقط الحق في المطالبة بالتعويض بالتقادم.
إن التحول الرقمي الذي شهدته دولة الإمارات قد أثر بشكل مباشر على هذه الإجراءات. فكثير من الخدمات، مثل خدمة تقدير قيمة الأضرار التابعة لوزارة الطاقة والبنية التحتية، أصبحت متاحة عبر القنوات الرقمية، مما يسمح للمتعامل بالحصول على تقرير بقيمة الأضرار ودفعها إلكترونياً للحصول على براءة ذمة. هذا التوجه نحو الرقمنة يهدف إلى تبسيط وتسريع الإجراءات القانونية والإدارية، ويدعم توجه المحاكم نحو تسريع الفصل في قضايا التعويض.
الدفوع القانونية الأكثر شيوعًا في قضايا حوادث السيارات
الدفوع القانونية هي الأسانيد التي يستند إليها المدعى عليه (السائق المخطئ أو شركة التأمين) لدرء المسؤولية عنه أو تخفيفها. فهي لا تنكر وقوع الحادث، ولكنها تشكك في مدى المسؤولية أو قيمة التعويض.
الدفوع المتعلقة بانعدام علاقة السببية
كما ذكرنا، يمكن للمدعى عليه أن يدفع بأن الضرر لم ينشأ عن خطئه، بل عن سبب أجنبي. ومن أهم هذه الدفوع:
- دفع بفعل المتضرر نفسه: وهو دفع مفاده أن المتضرر قد ساهم بخطئه في وقوع الحادث، مما يُقلل من مسؤولية المدعى عليه. فمثلاً، قد يدفع سائق المركبة بأنه لم يكن بإمكانه تفادي الحادث لأن المشاة عبروا الطريق من مكان غير مخصص لذلك ، في هذه الحالة، يمكن للمحكمة أن تخفض مقدار التعويض بنسبة ما يتحمله المتضرر من خطأ.
- دفع بفعل الغير: وهو دفع بأن الحادث ناتج عن خطأ شخص ثالث، مثل سائق آخر تسبب في الحادث، مما يقطع علاقة السببية بين خطأ المدعى عليه والضرر.
- دفع بالقوة القاهرة: وهو دفع بأن الحادث كان ناتجاً عن ظروف طبيعية أو قاهرة لا يمكن السيطرة عليها، مما يجعله خارجاً عن إرادة السائق.
الدفوع المتعلقة بالضرر
لا يقتصر الدفع القانوني على نفي المسؤولية، بل قد يركز على قيمة التعويض المطلوبة. ومن أهم هذه الدفوع:
- الدفع بالمطالبة بتعويض مبالغ فيه: وهو دفع مفاده أن قيمة التعويض التي يطالب بها المدعي لا تتناسب مع حجم الضرر الفعلي الذي لحق به. وتستند شركات التأمين في هذا الدفع إلى الأدلة الفنية والطبية، كتقديم تقارير طبية تثبت أن الإصابة أقل خطورة مما يدعيه المدعي.
- الدفع بعدم وجود ضرر مباشر من الحادث: وهو دفع يهدف إلى إثبات أن الضرر الذي يدعيه المدعي ليس ناتجاً بشكل مباشر عن الحادث، بل عن سبب سابق أو لاحق. فمثلاً، قد يُدفع بأن الكسر الذي أصاب المدعي لم يلتحم بسبب تاريخه المرضي السابق المتعلق بالتدخين، وليس بسبب خطورة الحادث.
- الدفع بعدم صفة المدعي في المطالبة: وهو دفع مفاده أن المدعي يطالب بتعويض عن ضرر لاحق به، ولكنه لا يملك الصفة القانونية للمطالبة به. ومثال ذلك أن يطالب المدعي بتعويض عن فترة توقف عن العمل، بينما كان يحصل على راتبه من جهة عمله خلال هذه الفترة بموجب قانون العمل، وبالتالي لم يتضرر مالياً.
استقراء أحكام محكمة التمييز في قضايا المسؤولية المدنية
تُعدّ أحكام محاكم التمييز في الإمارات (أبوظبي، دبي، رأس الخيمة) المصدر الرئيسي للمبادئ القضائية المستقرة التي يسترشد بها القضاة والمحامون. وقد أرست هذه المحاكم مبادئ هامة في قضايا المسؤولية المدنية المرورية.
مبادئ قضائية في تقدير التعويض
- سلطة محكمة الموضوع: أكدت محكمة التمييز أن تقدير الضرر وتحديد التعويض الجابر له من مسائل الواقع، التي تستقل بها محكمة الموضوع دون رقابة عليها من محكمة التمييز، ما دام تقديرها مستنداً إلى أسباب سائغة.
- التعويض عن الضرر المعنوي: أوضحت المحاكم أن التعويض عن إيذاء النفس في غير حالات استحقاق الدية أو الإرش يخضع لقواعد قانون المعاملات المدنية، ويكون تقديره للقاضي حسبما يراه مناسباً لجبر كافة الأضرار.
مبادئ قضائية في تحديد المسؤولية
- مسؤولية شركة التأمين: المسؤولية المدنية لشركة التأمين هي مسؤولية تابعة لمسؤولية سائق المركبة المؤمن عليها. وإذا لم يُدن الحكم الجزائي سائق المركبة، فإن مسؤولية شركة التأمين عن التعويض لا تتحقق.
- حجية الحكم الجزائي: الحكم الجزائي القطعي الذي يثبت نسبة مساهمة سائق المركبة في وقوع الحادث، تكون له حجية أمام القضاء المدني، ولا يجوز للمحكمة المدنية أن تعيد بحث هذه النسبة.
دراسة حالة تطبيقية: مذكرة دفاع عن شركة تأمين في حادث سير
لإضفاء الطابع العملي على هذا المقال، سيتم تخيل واقعة افتراضية وصياغة مذكرة دفاع عنها، ثم تقديم الرأي القانوني في نهايتها.
واقعة افتراضية
بتاريخ 5 مارس 2024، وقع حادث سير في شارع الشيخ زايد بدبي بين مركبة (أ) ومركبة (ب). أصدرت شرطة دبي تقريراً مرورياً أقر بمسؤولية سائق المركبة (أ) بنسبة 100% لتجاوزه الإشارة الضوئية الحمراء، فيما كان سائق المركبة (ب) يلتزم بالسرعة المحددة في مساره. تعرض سائق المركبة (ب) لإصابة في ساقه وتم نقله إلى المستشفى، حيث أُجريت له عملية جراحية. بعد خروجه من المستشفى، رفع دعوى قضائية يطالب فيها بتعويض مادي وأدبي عن تكاليف العلاج التي تكبدها، وفوات الكسب لمدة ثلاثة أشهر بسبب توقفه عن العمل، بالإضافة إلى التعويض عن الأضرار النفسية التي لحقت به. قامت شركة التأمين التي تؤمن على المركبة (أ) بتكليف محاميها للدفاع عنها في الدعوى.
صياغة المذكرة القانونية
إلى محكمة دبي الابتدائية
مذكرة دفاع مقدمة في الدعوى رقم (123) لسنة 2024
المرفوعة من: المدعي: (اسم المدعي)
ضد: المدعى عليها: شركة (اسم شركة التأمين)
الوقائع:
أقرّت المدعى عليها بواقعة الحادث وأن المركبة المتسببة فيه مؤمنة لديها وقت وقوعه. لكن المدعى عليها تتمسك بأن الأضرار التي يطالب بها المدعي غير واقعية ومبالغ فيها، وأن جزءاً كبيراً من مطالبة المدعي لا يعود في حقيقته إلى الحادث، بل يعود إلى أسباب أخرى سابقة أو لاحقة للحادث.
الدفوع القانونية:
أولاً: الدفع بعدم واقعية الأضرار التي يطالب بها المدعي والمطالبة بتعويض** مبالغ فيه:**
يدفع الحاضر عن المدعى عليها بأن التعويض الذي يطالب به المدعي مبالغ فيه بشكل صارخ، ويتمسك بأن الأضرار الحقيقية التي لحقت به لا تتناسب مع المبلغ المطلوب. فالتقارير الطبية التي قدمها المدعي لا تشير إلى أن إصابته كانت بليغة أو خطيرة، بل تؤكد أن الكسر التحم بشكل جيد وأن حالة المدعي الصحية مستقرة. ومن المستقر في أحكام القضاء أن تقدير التعويض يجب أن يكون متناسباً مع حجم الضرر الفعلي، وليس بناءً على مطالب مبالغ فيها.
ثانياً: الدفع بعدم صفة المدعي في المطالبة بالتعويض** عن فوات الكسب:**
يتمسك الحاضر عن المدعى عليها بأن المدعي لا يملك الصفة القانونية في المطالبة بتعويض عن فوات الكسب. فبالرجوع إلى شهادة العمل التي قدمها المدعي بنفسه، تبين أنه لا يزال يعمل لدى جهة عمله، وأن الفترة التي توقف فيها عن العمل (ثلاثة أشهر) كانت إجازة مرضية مدفوعة الأجر من قبل رب العمل، بموجب قانون العمل. ولما كانت الأضرار التي لحقت بالمدعي خلال هذه الفترة قد تم تعويضها من قبل رب العمل، فإنه لا يوجد ضرر مالي مباشر لحق به، مما يجعل مطالبته في هذا الصدد لا سند لها من الواقع والقانون.
الطلبات الختامية:
بناءً على ما تقدم، تلتمس المدعى عليها من عدالة المحكمة الموقرة:
- رفض الدعوى فيما جاوز المبلغ الحقيقي للضرر.
- إلزام المدعي بالرسوم والمصاريف وأتعاب المحاماة.
المحامي الوكيل عن شركة التأمين
الرأي القانوني
في هذه الواقعة، تبدو مسؤولية سائق المركبة (أ) ثابتة من الناحية القانونية بناءً على تقرير الشرطة، مما يجعل مسؤولية شركة التأمين قائمة. ومع ذلك، فإن النزاع لا يتركز على أساس المسؤولية بقدر ما يتركز على قيمتها. فدفوع شركة التأمين المتعلقة بالمطالبة بتعويض مبالغ فيه، وعدم صفة المدعي في المطالبة بفوات الكسب، هي دفوع جوهرية. ومن المرجح أن تأخذ بها المحكمة، خاصة إذا قدمت شركة التأمين ما يثبت صحتها، كشهادة العمل والتقارير الطبية. فالقضاء الإماراتي ينظر في كل الأدلة المقدمة ويُعمل سلطته التقديرية في تحديد قيمة التعويض الذي يجبر الضرر الفعلي والحقيقي.
خلاصة القول: نحو فهم أعمق للمسؤولية المدنية المرورية في الإمارات
إن المسؤولية المدنية في حوادث السيارات في الإمارات هي منظومة قانونية متكاملة، لا تقتصر على نص قانوني واحد، بل تستند إلى قواعد وأحكام متعددة في قانون المعاملات المدنية وقانون السير والمرور وأحكام القضاء المستقرة. وقد أظهرت هذه الدراسة أن دعوى التعويض ليست مجرد إجراء شكلي، بل هي معركة قانونية يُلعب فيها دور الدفوع القانونية، وحجية الأدلة، وسلطة القاضي التقديرية دوراً حاسماً في تحديد مصيرها.
ومع دخول السيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي إلى طرقات الإمارات، ستبرز تساؤلات قانونية جديدة لم يعالجها التشريع الحالي بشكل صريح. فالقوانين الحالية مبنية على "خطأ" السائق، ولكن في حالة وقوع حادث لسيارة ذاتية القيادة، من هو "الخاطئ"؟ هل هو مالك السيارة، أم الشركة المصنعة، أم مطور البرمجيات؟ هذا التطور يفرض تحدياً على المنظومة القانونية، ويستوجب من المشرع والقضاء تفسير وتطوير مبدأ المسؤولية عن الأشياء غير الحية، مما يوضح أن المسؤولية المدنية في حوادث السيارات ليست موضوعاً جامداً، بل هو مجال ديناميكي يتطور مع التكنولوجيا، وستكون أحكام المحاكم الإماراتية في هذا الصدد محط أنظار العالم القانوني في المستقبل القريب.